Monday, May 28, 2007

من أين يأتون؟

على صوت أمي استيقظت في الصباح الباكر, بعد عدة محاولات منها لذلك, والهدف هو الذهاب للكلية, لماذا؟أنا لا أدرى ,المهم أن هناك مكانا اذهب إليه في الصباح وأعود منه منهكا في المساء,ذهبت إلى الكلية ووجدت أصدقائي فبدأنا في المزاح والضحك حتى تجاوزت موعدي بثلاثين دقيقة ,لقد تأخرت عن السكشن وأدرك الآن كم التوبيخ والسخرية التي سأنالها من مدرستنا الطبيبة الشابة التي لم تبلغ الثلاثين بعد.

دخلت إلى السكشن مستترا وراء عدد من زملائي وأنا أتحرك في هدوء ,ثم..."طارق!"انطلق صوتها كالصاعقة وهى تسألني كيف دخلت إلى هنا؟ وطبعا لست في حاجة لتكرار هذه المحاضرة الأخلاقية التي أتعرض لها صباح كل يوم,منها أو من أي طبيب بالأقسام الأخرى ,فقد كنت كسولا دائم التأخر عن دروس الفترة الصباحية إلا ما رحم ربى ,على العموم انتهت هذه المحاضرة الأخلاقية على وعد منى- كالعادة – بعدم التأخر والانتظام في الدراسة وإلا كان ذلك سببا في طردي من المحاضرات وحرماني من الامتحانات وإخبار والدي وجذب أذني وعديد من التهديدات الأخرى التي تنبأ بالويل والثبور وعظائم الأمور,فقد كانت طبيبتنا الشابة تعتقد أنها محور العلم في زمانها وشعلة النور في ظلمات المشرحة,مع أننا لم نكن نفهم شيئا إلا في الحادية عشرة عندما تبشرنا بانتهاء الدرس وتدعونا للاهتمام بالمذاكرة والاهتمام بالواجبات المدرسية - عفوا- الاهتمام بالعظام في البيت ومذاكرتها جيدا.

قالت:"اليوم نبدأ فرع جديد من التشريح وهو تشريح الرأس والرقبة". يا الله, هذا ما انتظره منذ زمن, أنا اشعر أنني في طريقي لأصبح طبيبا, لكنني وجدت نفسي أفكر في الجثة التي أمامي, من هذا الرجل؟ ولماذا هو بالذات هنا؟لطالما نظرت إلى هذه الجثة كل صباح,لكنى أحس بالرعب الآن وأنا أرى بياض العينين الذي يطل على استحياء من خلف تلك الجفون المسبلة , الآن أريد أن افتح الباب وأولى هاربا و.."فيم تفكر ياطارق؟" كان هذا صوت الطبيبة ثم تابعت"إن لم تنتبه للدرس مرة أخرى فسأطردك كي تستطيع التفكير في هدوء".هنا قام أحدهم وقال:"من فضلك أريد أن اعرف من أين تأتى هذه الجثث ولماذا تنتخب هي بالذات كي يدرس عليها طلاب الطب؟". طبعا اسقط في يديها وحارت جوابا, وقالت في شراسة:"إنهم يأتون بها وحسب, يمكنك أن تسأل العميد فيما بعد ولكن لو أردت رأيي فانتبه للدرس الآن, هل تفهمني؟"رد زميلي في خفوت:"افهم".

وعلى هذا أكملت الدرس وسبح عقلي في التفكير,إننا لما التحقنا في العام الماضي بالكلية كنا ننظر لهذه الأجساد بأقصى درجات العظة والتوبة والاعتبار ولكن بعد مرور شهر واحد لا أكثر كنا قد تعودنا عليها ,فأصبحت لا تعامل على أساس من الحرمة المقدسة بل إنها تهان من العديد من الطلاب وأصبح معظمنا يعاملها على أنها دمى مطاطية ,والأغرب من هذا أن عدد ليس بالقليل يلهو بها ويمزح مع أصدقائه الأوغاد الآخرين الذين يردون له المزاح بمثله.

لقد أمرنا أن نتعامل مع أجساد الأموات كما لو كانوا أحياء تماما-إلا في ظروف معينة مثل التعليم – وكسر عظم الميت ككسره حيا.
رجعت إلى البيت وحاولت تطبيق ما أخذته اليوم على العظام الموجودة معي في البيت ,لكنني واصلت التفكير حتى انتصف الليل فلم أجد بدا من الذهاب للنوم , ألقيت نظرة أخيرة على العظام فوق مكتبي ,أطفأت الأنوار , ورحت في سبات عميق.

.

No comments: